المذهب المالكي هو المدرسة التي اتخذت أقوال الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) مردا للعمل والفتيا والتقليد ، وجعلت أصوله وفروعه مناط الدرس والاتباع ، مع قدر من الاجتهاد والتصحيح والتوجيه لأئمة المذهب المجتهدين ، شأن غيره من المذاهب المتبوعة في ذلك .
وقد انتشر هذا المذهب في الآفاق بفضل الله أولا ، ثم بفضل جهود تلامذة الإمام مالك رحمه الله ، الذي أطبق الناس في زمانه على إمامته والرجوع إليه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا :
من أشكل الدراسات وأدقها الخوض في مقارنة المذاهب الفقهية الأربعة ، وتقرير أحقية أحدها بالصواب أكثر من غيره من المذاهب ، وذلك لأسباب عدة ، من أهمها :
السبب الأول :
الاختلاف في فهم المذهب نفسه ، وتقرير أصوله ، وتخريج فروعه على تلك الأصول ، فإذا كان فقهاء المذهب الواحد يختلفون في بعض المسائل ، في تحديد قول إمامهم في مسألة معينة ، فكيف سيكون الحال في غير أتباع المذهب من أهل العلم ؟! وهذا السبب – وإن كان محصورا في إطار ضيق في بعض المسائل – غير أنه لا ينكر تأثيره في الوجهة العامة .
السبب الثاني :
الاختلاف بين الفقهاء في تحديد الصواب في كثير من مسائل الفقه ، وقضايا الشريعة ، خاصة وأنها مسائل اجتهادية في معظمها ، فمن يدعي أن مذهبا معينا أقرب إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسوف يكون مدار الأمر على ما يراه هو راجحا ، ولا يلزم أن يكون ذلك هو الراجح في نفس الأمر .
السبب الثالث :
تعدد جوانب الأفضلية وتوزعها في المذاهب الأربعة ، الأمر الذي يتعذر معه الجزم بأن مذهبا معينا أفضل من غيره ؛ فإن المذاهب الأخرى قد تشتمل على جانب التفضيل نفسه محل الدراسة ، كما قد تشتمل على غيره من جهات التفضيل . خاصة وأن المذاهب محل الدراسة تغطي مئات الآلاف من المسائل والأحكام ، فمن المتعذر الحكم بأفضلية مطلقة لمذهب في جميع تلك المسائل ، وغاية ما هنالك محاولة المقارنة في بعض الأبواب ، كالأحوال الشخصية ونحو ذلك .
ثالثا :
وأما ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه القضية فخلاصته التركيز على مذهب أهل المدينة ، وليس على مذهب المالكية ، فمذهب المالكية دخلته الكثير من الاختيارات الفقهية التي أخذ بها أتباع مالك من فقهاء مصر والمغرب ، وكانت تخالف حقيقة ما يذهب إليه فقهاء المدينة المنورة .
وهذا لا يعني نفي ما تميز به مذهب المالكية من خصائص عظيمة وجليلة ، مثل : التوسع في مصادر التشريع لتشمل العرف والاستصلاح وشرع من قبلنا وغيرها ، والمرونة الناتجة عن اعتماد هذه المصادر ، الأمر الذي جعل للمذهب صلاحية ظاهرة للحكم والتقنين ، بل وأثبتت الدراسات المتخصصة استقاء القوانين الفرنسية من المذهب المالكي في معظم فروعه ومواده . ينظر كتاب " المقارنات التشريعية "، لمخلوف منياوي، ولسيد عبد الله حسين .
ولكن المقصود فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأنه متجه أكثر إلى مذهب أهل المدينة ، ومالك أعلم الناس به ولا شك ، ولكن الاختيارات المتأخرة لفقهاء المالكية فيها بعض المخالفة ، كما قرر ذلك ابن تيمية نفسه رحمه الله في " مجموع الفتاوى " (20/327).
ونحن ننقل هنا بعض ما قاله العلماء المحققون من خصائص مذهب الإمام مالك رحمه الله ، مقارنا بغيره من المذاهب ، ليس على سبيل الجزم بالأفضلية ، وإنما على سبيل تحصيل صورة مجملة ، وتشكيل علامة أولية للأمر المقصود .
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن صحة أصول مذهب أهل المدينة ، ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة ؛ وضبطه علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار ؟
فأجاب رضي الله عنه :
مذهب أهل المدينة النبوية في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم : أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا ؛ في الأصول والفروع . وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة ؛ التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين - عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ) .
وفي القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن ؛ فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار ، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها ، حتى إنهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك ، وأن افتقار العلماء ومقاصد العباد أكثر من افتقار أهل المدينة ؛ حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله ، بما كان عندهم من الآثار النبوية التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد .
ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة ، لا في تلك الأعصار ، ولا فيما بعدها ، لا إجماع أهل مكة ، ولا الشام ، ولا العراق ، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين .
والتحقيق في " مسألة إجماع أهل المدينة " أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين ؛ ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ؛ ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم .
وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب .
" الأولى " ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد ؛ وكترك صدقة الخضراوات والأحباس ، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء .
" المرتبة الثانية " العمل القديم بالمدينة ، قبل مقتل عثمان بن عفان ، فهذا حجة في مذهب مالك ، وهو المنصوص عن الشافعي . قال في رواية يونس بن عبد الأعلى : إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء ، فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق . وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها .
والمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة ، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين ، مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
و" المرتبة الثالثة " إذا تعارض في المسألة دليلان ، كحديثين وقياسين ، جهل أيهما أرجح ، وأحدهما يعمل به أهل المدينة ؛ ففيه نزاع . فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة . ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة . ولأصحاب أحمد وجهان . فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة .
وأما " المرتبة الرابعة " فهي العمل المتأخر بالمدينة ، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه ، أم لا ؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية . هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم . وهو قول المحققين من أصحاب مالك ، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه " أصول الفقه ". ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة ، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم ، فهو يحكي مذهبهم ، وتارة يقول : الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا ، يصير إلى الإجماع القديم ، وتارة لا يذكر . ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة - يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص - لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان ، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع . وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطئه فامتنع من ذلك .
وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة ، علم بذلك أن قولهم : أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا ، وأنه تارة يكون حجة قاطعة ، وتارة حجة قوية ، وتارة مرجحا للدليل ، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين .
ومما يوضح الأمر في ذلك : أن سائر أمصار المسلمين - غير الكوفة - كانوا منقادين لعلم أهل المدينة ، لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم ، كأهل الشام ومصر مثل الأوزاعي من الشاميين ، ومثل الليث بن سعد من المصريين ، وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين . وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب وحماد بن زيد ؛ وعبد الرحمن بن مهدي ؛ وأمثالهم . ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار .
إذا تبين ذلك ؛ فلا ريب عند أحد أن مالكا رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا ؛ فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه ، كان له من المكانة عند أهل الإسلام - الخاص منهم والعام - ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام .
والناس كلهم مع مالك وأهل المدينة : إما موافق ؛ وإما منازع .
فالموافق لهم عضد ونصير ، والمنازع لهم معظم لهم ، مبجل لهم ، عارف بمقدارهم .
وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدودا من أئمة العلم ، وذلك لعلمهم أن مالكا هو القائم بمذهب أهل المدينة ، وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار ؛ فإن موطأه مشحون : إما بحديث أهل المدينة ؛ وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة : إما قديما؛ وإما حديثا . وإما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم ، فيختار فيها قولا ويقول : هذا أحسن ما سمعت